الثورة الجزائرية الكبرى
شهد الجزائريون سنة 1954م (1373- 1374هـ) كيف بدأ الكفاح المسلح في تونس والمغرب الأقصى يعطي ثماره. وقد قدر عدد الجزائريين العاملين بالجيش الفرنسي في تلك السنة بـ 160 ألفًا، شارك منهم عشرات الآلاف في حرب الهند الصينية، ورأوا بأنفسهم كيف حققت ثورة وطنية آسيوية نصرًا كاسحًا على الاستعمار الفرنسي. وكانت أوضاع الجزائريين في ظل الاستعمار تزداد سوءًا، بحيث قدرت الإحصائيات الرسمية عدد العاطلين منهم عن العمل ما بين 900 ألف ومليون ونصف المليون. وكان أكثر من خمسة ملايين فدان من أخصب الأراضي الزراعية الجزائرية بيد 21,659 مستوطن أوروبي، في حين كان 6,3 ملايين يعيشون على استثمار عشرة ملايين فدان فقط. ولم تكن المدارس لتستوعب أكثر من ثُمْن الأطفال الجزائريين الذين هم في سن الدراسة، وما كان يصل منهم إلى المرحلة الثانوية أكثر من العُشر. ولم يترك لأهل البلاد من الوظائف الإدارية سوى أربعة آلاف من مجموع 26 ألفًا. كل هذه الظروف هيأت التربة الصالحة لاحتضان ثورة ليلة الرابع من ربيع الأول 1374هـ (غرة نوفمبر 1954م) ونجاحها.
ففي أوائل سنة 1954م كانت قد تشكلت اللجنة الثورية للاتحاد والعمل من مجموعة شبان، كان معظمهم أعضاء في حركة الانتصار للحريات وعملوا في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية. منهم أحمد بن بيلا، وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف. وفي صيف السنة نفسها عقدت اللجنة مؤتمرًا سريًا بأوروبا الغربية، واتخذت قرارًا بإعلان الثورة. وفي ليلة الأول من نوفمبر نسق الوطنيون حوالي 30 هجومًا في جميع أنحاء الجزائر على أهداف عسكرية مختلفة ومراكز للشرطة. وتلا ذلك تكوين لجان ثورية متفرقة اندمجت جميعًا في هيئة واحدة باسم جبهة التحرير الوطني الجزائري. انظر: الأحزاب السياسية العربية. وبلغت الثورة أوج قوتها من حيث امتداد سلطتها على أكبر رقعة من الأرض في سنة 1956م، كما امتد نشاطها إلى الأراضي الفرنسية نفسها منذ صيف 1958م. وقد سيطر القادة العسكريون على الجبهة في مرحلتها الأولى، إلى أن قرر مؤتمر وادي الصمام، الذي انعقد داخل الجزائر في 20 أغسطس 1956م، إنشاء المجلس الوطني للثورة. فأصبح هذا المجلس يمثل أعلى جهاز بجبهة التحرير، يوجه سياسة الجبهة ويتخذ القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد، وله وحده الحق في إصدار أمر وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى لجنة التنسيق والتنفيذ التي أصبحت مسؤولة عن توجيه جميع فروع الثورة العسكرية والسياسية والدبلوماسية وإدارتها، وأصبح جميع القادة العسكريين والسياسيين القائمين بالنشاط الثوري مسؤولين بصورة مباشرة أمامها. ثم تقرر في مؤتمر طنجة في أبريل 1958م، بالاتفاق مع حكومتي تونس والمغرب، تأسيس حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأعلن عن تكوينها فعلاً يوم 19 سبتمبر 1958م (5 ربيع الأول 1378هـ) برئاسة فرحات عباس. وقد تولى رئاستها بعده يوسف بن خدة في أغسطس 1961م (1381هـ). كما بعثت جبهة التحرير الاتحاد العام للعمال الجزائريين، واتحاد الطلاب الجزائريين، واتحاد التجار وصغار رجال الأعمال الوطنيين، وأصدرت مجلة عربية تتحدث باسمها تُدعى المجاهد الحر.
وقد ظلت الحكومة الفرنسية تحاول التقليل من أهمية الثورة حتى أبريل 1955م، حين أعلنت حالة الطوارئ بالجزائر لمدة ستة أشهر، منحت بمقتضاها السلطات الإدارية صلاحيات واسعة استثنائية، منها إنشاء محاكم عسكرية حلت محل المحاكم الجنائية. وقد اضطرت فرنسا إلى تجديد العمل بهذا القانون، لأن الثورة استمرت أكثر مما كانت تتوقع. وارتبط بها الأشخاص المولودون في الجزائر والمقيمون بالأراضي الفرنسية، وذلك سنة 1957م في عهد حكومة بورجيس مونوري، وقد أدى الجزائريون المقيمون بفرنسا دورًا مهمًا في الثورة من الناحية المالية. جربت فرنسا كل أساليب القمع، فزادت قواتها بالجزائر إلى ما يقارب نصف مليون رجل، وعزلت الجزائر بالأسلاك المكهربة عن تونس والمغرب لمنع المدد عن الثوار، وشاركت في حرب السويس ضد مصر سنة 1375هـ، 1956م لإجبار الحكومة المصرية كي تمتنع عن دعم ثوار الجزائر بالأسلحة والعتاد والدعم السياسي. انظر: أزمة السويس. لكن الثورة الجزائرية أصبحت، بعد مضي أربع سنوات، من الأهمية بحيث امتد أثرها إلى داخل فرنسا ذاتها. وتعد عودة ديجول إلى الحكم، وقيام الجمهورية الخامسة نتيجة مباشرة لفشل فرنسا في قمع الثورة. وقد تمهد السبيل للانقلاب بعد أن جرت الحرب الجزائرية الجيش للخوض في السياسة، وتم الانقلاب فعلاً في 13 مايو 1958م بقيادة فرقة المظلات. لكنه فشل، لأن أهداف القائمين به لم تكن واحدة. كما تمهد السبيل لكي تقبل الجمعية الوطنية، بأغلبية ساحقة. تولّى ديجول رئاسة الحكومة مع سلطات مطلقة خاصة بناء على طلبه. وقبل أن يعلن هذا الأخير عن مشروعه في 16 سبتمبر 1959م بخصوص السياسة الجزائرية، اتخذ عدة إجراءات تنم ضمنًا عن أنه كان يتجه إلى فكرة الإدماج. وكان ذلك المشروع يحتوي على الاعتراف بحق الجزائر في تقرير مصيرها حتى ولو أدى ذلك إلى الانفصال عن فرنسا، لكنه أحاط ذلك المبدأ بقيود وتحفظات جعلت المشروع في مجموعه غير مقبول بتاتًا من جبهة التحرير الجزائرية. وازدادت علاقات ديجول بالمستوطنين الفرنسيين سوءًا، وقاموا في مدينة الجزائر بأول حركة تمرد واسعة من 26 يناير إلى 2 فبراير 1960م. وتكتلت أحزاب اليمين في فرنسا باسم جبهة الجزائر الفرنسية برئاسة جورج بيدو، وقام أربعة من الجنرالات (سالان، وشال، وزيلر، وجوهو) بمحاولة انقلابية ضد الجمهورية الخامسة فيما بين 22 و26 إبريل 1961م لكنها قمعت. وعندما قام ديجول بزيارته للجزائر في 10 ديسمبر 1960م شعر بأن كل إجراء يتخذ بدون الاتفاق مع جبهة التحرير سيكون مآله الفشل الذريع.